هل مؤسسة الأسرة فى حالة تهديد؟

تم النشر: 25-12-2022 الساعة 19:30

نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة آمال موسى، تقول فيه أنه وإن كانت المجتمعات العربية ــ على عكس المجتمعات الأوروبية ــ ما زالت مشدودة لمؤسسة الأسرة، إلا أنه من الخطأ الاعتقاد بأنها منظومة صامدة بشكل كامل، فالأسرة العربية تواجه تهديدات ثقافية واقتصادية تؤثر سلبا على تماسكها وتهدد استقرار المجتمع... نعرض من المقال ما يلى:

هيمن الاهتمامُ بالفرد، وأهملنا فى مقابل ذلك، ما عرفته وتعرفه الأسرة كمؤسسة بالمعنى الاجتماعى والرمزى للكلمة والمفهوم، من تراجع فى المكانة والأدوار وفى الخصائص.

من المهم التذكير بأنَّ الأسرة هى الوحدة الرئيسية فى البناء الاجتماعى العام، وأنَّها الخلية الأولى للجسد الاجتماعى. ومن المهم أيضا التذكير بأنَّ ما يسمى وظيفة التنشئة الاجتماعية التى يتلقاها الفرد ومن خلالها تنقل له الرموز والثقافة وطريقة العيش ونماذج التصنيف والقيم... إلى الفرد. وبالحديث عن وظيفة التنشئة الاجتماعية اللازمة كى ينتقل الفرد الإنسان من طور الطبيعة إلى طور الثقافة، فإننا نقر ضمنيا وبصريح العبارة بأن الأسرة هى مؤسسة لا غنى للإنسان عنها بالمعنى الوظيفى المحض.

طبعا لا شك أن فلسفة الحداثة ذاتها، القائمة على إعلاء شأن الفرد والدفاع عنه ضد حتمية المؤسسات الاجتماعية وهيمنتها، قد مثلت أول ضربة تاريخية فى مكانة الأسرة. كما أن هذه الضربة كانت على مراحل ولا تزال تعتمد نفس التقنية؛ أى المرحلية. وهذه مسألة مفهومة جدا لأنَّ التغيير الثقافى بشكل خاص يحتاج إلى زمن.

ويمكن الاستنتاج أنَّ تراجع الأسرة والتحولات التى عرفتها شكلا ووظائف ومكانة، إنما هى نجد صداها ومظاهرها فى عملية الانتقال من المجتمع التقليدى ذى الهياكل التقليدية إلى مجتمع حداثى. بمعنى آخر، فإنَّ الأسرة ارتبطت بالبناء التقليدى التاريخى للمجتمع واستمرار مؤسسة الأسرة كان مرفوقا بتحولات شتى عرفتها الأسرة، حيث إن ما عرفه الفرد من تنامٍ لدوره ومكانته واستقلاليته ولعلاقته بالمؤسسات وموقعه فى الفعل الاجتماعى... كل هذا أدَّى آليا إلى تراجع متعدد الأبعاد فى مؤسسة الأسرة، وذلك من منطلق أن ما تحصّل عليه الفرد هو فى جزء وافر منه كان من رصيد الأسرة.

وهنا يمكن أن نقيس ما شاب الاجتماعى من تغييرات بتنامى ظاهرة الفردانية التى أثرت على العملية الاجتماعية ككل، وكان أول من بدأ يفكر فى هذا الانقلاب الاجتماعى هو عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر، من خلال نظرية الفعل الاجتماعى وتناول مفهوم الفاعل الاجتماعى، بعد أن كانت الأدبيات السوسيولوجية تستعمل مفهوم العون الاجتماعى. فالانتقال من زمنية العون الاجتماعى إلى زمنية الفاعل الاجتماعى حتَّم تغيرا فى المواقع والمراتب والصراع على الهيمنة.

إذن الحداثة كمنظمة قيم تنتصر للفرد واستقلاليته عن الأطر الاجتماعية وحريته، إضافة إلى أن عملية الكسر المتراكم للعلاقات العمودية النسق والقيم والعلاقات مثلت فى الحقيقة عامل إرباك نتج عنه مخاض طويل بطىء تختلف شدته من مجتمع إلى آخر ومن فضاء ثقافى اجتماعى إلى آخر. وفى هذا السياق، من المهم التمييز بين واقع الأسرة فى الفضاء الأوروبى والغربى عموما، وفى الفضاء العربى والإسلامى باعتبار أنَّ الأسرة فى الفضاء العربى والإسلامى لا تزال تحظى بمخيال إيجابى، وتمثل مصدرا وجدانيا واجتماعيا رغم كل التغييرات الحاصلة التى تجعلها رغم أهميتها تعرف هزات وصدمات. أما فى الفضاء الأوروبى فإنَّ حالة التّهرم السكانى ذاتها تعنى من بين ما تعنيه تراجع نسب الإنجاب وتكوين الأسر.

طبعا المجتمعات العربية فى غالبيتها ما زالت مشدودة إلى مؤسسة الأسرة، ولكن من الخطأ أن نتصور أنّها صامدة بشكل كامل، بل إنّه إلى جانب ما طرأ على مجتمعاتنا من تغييرات هى نتاج خطوات التحديث، فإنَّ الارتباكات الاقتصادية العالمية وفى المنطقة العربية وتوالى الأحداث، بدءا بحرب الخليج، ثم ما سمى الربيع العربى، وصولا إلى جائحة الـ«كوفيدــ 19» قد ألقت بظلالها على واقع الأسرة وراكمت أمامها الصعوبات. بمعنى آخر، فإن التداعيات الاقتصاديّة للأحداث قد أنتجت مجموعة من التوترات متعددة الأبعاد داخل الأسرة، ويتمظهر ذلك فى ارتفاع حالات الطلاق وتزايد ظواهر العنف داخل الفضاء الأسريّ وتدهور القدرة الشرائيّة.

إنّ مؤسسة الأسرة تعرف فى الوقت الرّاهن تهديدات ثقافيّة وماديّة اقتصاديّة متشابكة تُؤثر سلبا على وظيفتها التّاريخيّة وتنتج ظواهر تهدد استقرار المجتمع ومستقبله، خصوصا فيما يتعلق بالعزوف عن الزواج أو إهمال الأبناء، وما يمثله الطلاق ذاته من حالة تهديد للطفل، وشعور بالفشل لدى الزوجين ومن تفكك أسرى ومجتمعى.

المؤكد أنَّ الأسرة كأهم مؤسسة اجتماعية والأقدم تاريخيا، فى حالة تأزم قد تختلف وتيرته من مجتمع إلى آخر، وقد يختلف شكله من فضاء ثقافى إلى آخر، ولكن فى نفس الوقت الحقيقة التاريخية تقول إنَّ المجتمع لا يستغنى عن الأسرة كنواة أولى، وأنَّ التعامل السلبى مع العواصف التى تمس وجودها، إنما يؤسس لخراب اجتماعى لا قدرة للإنسان ولا للإنسانية عليه.

فالحل هو معالجة تهديدات الأسرة؛ لأنَّه لا غنى عنها، حتى ولو بلغت الفردانية أوجَها.