في خطوة تاريخية وسبّاقة سلّم البطريرك ثيوفيلوس الثالث بطريرك المدينة المقدسة للروم الأرثوذكس الرئيس الأمريكي بايدن عند زيارته الأخيرة للبلاد رسالة هامّة حملت صرخة كنائس القدس ضدّ الاعتداءات المستمرّة على العقارات والاوقاف المسيحية في البلدة القديمة، والتي تحاول الجهات الاستيطانية الاستيلاء عليها.
ومن حيث أمثل عائلة السيد تيسير عداوين في الدعوى التي قدمتها الجهات الاستيطانية للمحكمة لترحيلها من عقار بطريركية الروم الأرثوذكس في باب حطّة، أعتبر هذه الرسالة خطوة عظيمة وجريئة وعلى كل الغيورين على القدس وكنائسها استثمارها من أجل انقاذ العقارات المسيحية من براثن الجهات الاستيطانية، والحفاظ على الوضع القائم في القدس.
أستند في رأيي هذا إلى دلائل مختلفة، ومنها:
أولا: إنّ كل قنوات الاعلام الإسرائيلي الرئيسة تناولت رسالة البطريرك للرئيس الأمريكي وأولتها اهتمامًا بالغًا، ممّا يدلّ على أهمية هذه الرسالة خاصّة أنها تصدر من شخصية كنسية هامّة كالبطريرك الذي يجلس على الكرسي البطريركي لأعرق واقدم الكنائس- بطريركية الروم الأرثوذكس الاورشليمية. بل إنّ الرسالة فاجأت الطرف الإسرائيلي الذي لم يكن يتوقع مثل هذه السابقة، خاصّة في هذه الفرصة التاريخيّة الهامّة كزيارة الرئيس الامريكيّ لكنيسة المهد وهي أقدس الأماكن المسيحية في العالم .
ثانيا: دلت التجارب المختلفة على مدار السنوات أنّ المسار الإعلامي وخاصة الدولي هو محور حساسّ وموجع من جهة دولة إسرائيل، اذ أنها تدأب دائمًا على تصوير نفسها في العالم كدولة تحترم حرية الأديان، والعبادة وسيادة الكنائس، فجاءت رسالة البطريرك لتفضح الحقيقة القائمة على أرض الواقع من جهة تعامل الدولة مع العقارات الارثوذكسية والكنائس عامّة، وتواطؤها مع محاولات المستوطنين الاستيلاء والاعتداء على عقارات الكنائس في القدس.
ثالثا: لقد أكدت رسالة البطريرك مجدّدا أهمية الحفاظ على الوضع القائم (الستاتيكو) وأن استيلاء المستوطنين على العقارات الواقعة على الدرب الموصل لكنيسة القيامة هو مساس سافر لهذا المبدأ الملزم لكل سلطة حاكمة في القدس، وكم بالحري دولة إسرائيل كسلطة احتلال. إنّ سيطرة المستوطنين على هذه العقارات هو تغيير جذري في واقع البلدة القديمة وحي النصارى خاصّةً وهوية القدس وطابعها التاريخيّ، وهو مخالفة صارخة للقانون الدولي وللأعراف والقوانين الخاصة بالعقارات والاوقاف الكنسية.
رابعا: يرفض القضاء الإسرائيلي حتى الساعة وبشكل تعسفيّ التماسات بطريركية الروم الأرثوذكس والمستأجرين الفلسطينيين الساكنين في العقارات ابطال اتفاقيات التأجير التي حصلت عليها الجهات الاستيطانية بالنسبة للعقارات المذكورة. ويعبّر موقف القضاء الإسرائيلي في هذه القضية عن إنكاره لسيادة وحرمة الكنائس وحقها في الحفاظ على عقاراتها، بل هو يُكره البطريركية على الرضوخ لاتفاقيات باطلة أعلنت البطريركية رفضها منذ لحظة اكتشافها حتى إنّ البطريركية عزلت البطريرك السابق على خلفية هذه الاتفاقيات وهو قرار تاريخيّ نادر. ولهذا لا يمكن أن نأمل ان يكون انقاذ العقارات من خلال الساحة القضائية المحليّة. نظرا لذلك ومن خلال ادراكه لقيمة ومكانة البطريركية الأرشليمية وسائر كنائس القدس يناضل البطريرك منذ أعوام لإنقاذ هذه العقارات بواسطة القنوات الدولية والإعلامية، وذلك بالتعاون الدائم مع المملكة الأردنية الهاشمية والسلطة الوطنية الفلسطينية واللجنة العليا للكنائس في فلسطين برئاسة الدكتور رمزي خوري. رسالة البطريرك الأخيرة للرئيس بايدن هي خطوة هامة اخرى في هذا الاتجاه وقد تكون الأهم الى هذا الحين.
وحتى لو أنّ رسالة البطريرك لم تحصل على موقف أمريكيّ صارم وفعليّ يساند البطريركية والمستأجرين، وهو أمر متوقع بالنظر الى العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فان الرسالة ذاتها ووقعها في الاعلام الإسرائيلي والدولي إنجاز كبير. لذا يجب استثمار هذه الرسالة والبناء عليها حاضرًا ومستقبلًا الى ان تنجح الجهود المبذولة لحماية العقارات من الاستيطان والحفاظ على الوجود المسيحي والكنسي في البلدة القديمة وهو جزء أصيل من هوية القدس وتاريخها وميراثها.